إن فضاء الصحراء المفتوح، المتسم بالوعورة والمحفوف بالمخاطر فرض التزام الجماعة وتآزر الأفراد داخلها، كما كان لنمط العيش المعتمد على الترحال البدوي والإغارة دور في التحام وتحالف القبيلة الواحدة أو مجموعة من القبائل بالمنطقة الصحراوية.
أيضا دعت طبيعة المجتمع الصحراوي كمجتمع قبلي يرتكز على العصبية القبلية كنظام اجتماعي إلى الوحدة وتضامن القبيلة وتعاونها إما لمحاربة العدو ”غزي” أو محاربة الفقر في إطار ما يسمى محليا ب “لمنيحا”.
زيادة على هذا يأتي التضامن القائم بين الأفراد كنتيجة حتمية لخلفية ثقافية تكرس لسلوك التضامن والتعاون فيما بين الأفراد عبر مجموعة من القيم البدوية الرامية إلى وحدة المجموعة ولحمة القبيلة. والتي يحملها ويحث عليها التراث الشعري الحساني والحكايات والأمثلة الشعبية من قبيل “حمل اجماعة ريش” و”ماهو صديگ لما جابو رغاها يوم ززها ولا يوم طلاها” الداعية إلى الالتزام بالتضامن ومساعدة الغير.
وكما في أوقات الشدة والحرب يتضامن أهل الصحراء، ففي أوقات الرخاء والسلم لا تخلو حياتهم اليومية أيضا من التعاون في الأنشطة اليومية والمناسبات الاجتماعية فلقد اتسمت علاقات الجوار بالمجتمع الصحراوي قبل الاستعمار بميل الأفراد بالمجموعة السكنية الواحدة “لفريگ” سواء كانوا أقارب أو غير ذلك إلى تقديم المساعدات إلى بعضهم البعض في جميع الأنشطة ابتداءً من الأنشطة اليومية إلى الأنشطة الموسمية كموسم الحصاد والتسوق السنوي، وكذلك في مناسبات الزواج والعقيقة والعزاء، وحتى في حالة الخصام لا يُعفى المتخاصمون من مساعدة بعضهما البعض إن تطلب الأمر المساعدة، كما يحث على ذلك المثل الشعبي القائل “لهجار ما هو فرفود لغراير”.
لقد شكلت “التويزا” أحد أشكال التضامن التي عرفها المجتمع الصحراوي وتفضي إلى اجتماع الأقارب والجيران من أجل التعاون على الحرث أو الحصاد أو قص صوف الغنم أو وبر الإبل أو علاجها أو خياطة الخيام وغير ذلك من الأنشطة الصعبة التي تتطلب مجهودا جماعيا. وتكون مناسبة أيضا للترفيه وتبادل الأشعار والحديث والتنافس في جو من المرح مما جعل أهل الصحراء لايتخلفون عنها بل يتنادون إليها فيأتي كل من سمع بالتويزا وهي ما يعبر عنها محليا ب “فلان متوز غدا” أو “فلانة متوزا غدا” ويقوم آنداك صاحب التويزا أو صاحبتها بالذبح أوالنحر إكراما لمن حضر للمساعدة والمشاركة.
يظهر التضامن أيضا في حالة الضيافة، فإذا حل بأحد الخيام ضيف كأنما حل على الجميع فتعمل الجارة على مد المستضيفة بكل ما يلزمها لإكرام الضيف وفي ذلك علاقة بالسلوك الإيثاري الذي كان يتحلى به ساكنة الصحراء.
إن الحياة الجمعية والروابط القبلية أوجدت نوعا من الالتزام الاجتماعي تجاه بعضهم البعض وأن أوضاعا يسندها المجتمع إلى الأشخاص الذين يحملون صلات قرابة معينة (كصلات الدم وصلات النسب) هذه الأوضاع هي التي تحدد وتلزم بنوع معين من السلوك. فالحياة القاسية تفرض عليهم التعاون سلوكا والتكافل الاجتماعي منهجا لمواجهة ظروف البيئة القاسية، فهناك اشتراكية في المرعى وفي الماء وفي النار واللبن خاصة في موسم الربيع حين تجود الماشية بكميات تفيض عن حاجتهم، كما يبدو التعاون حين يساهم البدوي في علاج الماشية أو ترويها أو تقليمها لجاره أو أحد أقاربه، هذه المشاركة يقدمها البدوي إلى غيره دون مقابل وهو يدرك تماما أن ما يقوم به اليوم ويقدم للآخرين إنما هو بمثابة إلزام لهم بأن يقفوا إلى جانبه حين يحتاج إليهم في مناسبة مماثلة.
في المقابل نبذ أهل الصحراء سلوك الأنانية والانفراد بالمنفعة الخاصة كما تنص على ذلك الأقوال والأمثال الشعبية ومنها على سبيل المثال: “بوصوم الاّ من الگوم ولا زازو اللوم” “اللي حدو حد راسو يعكب يغلبو” كما نبذوا من لامنفعة فيه لغيره ويقال تعبيرا عن ذلك: “فلان ما گط رينالو لا ظل ولا دفا”، كما أنه يعاقب كل من تخلى عن الجماعة وقت الحاجة بتخليهم عنه وقت حاجته.
عند دخول المستعمر لجأ القبائل إلى التضامن والتحالف من أجل طرد المستعمر الإسباني من منطقة الصحراء الأطلنتية وقد كلل تضامنهم بجلاء الاستعمار من المنطقة، إلا أن مرحلة الاستعمار شكلت أول مرحلة في تغير ملامح المجتمع الصحراوي بعدما عرف البدو الرحل بوادر الاستقرار بالمراكز السكنية التي أحدثها المستعمر، ثم بعد ذلك شكل حضور الدولة الوطنية عاملا حاسما في تشكيل الملامح الجديدة للمجتمع الصحراوي.
لقد أحد استعمار المنطقة واسترجاعها تغيرا في نظام وبنيات المجتمع الصحراوي وفي الثقافة البدوية وسلوك الأفراد بما في ذلك تغيرسلوك التضامن نتيجة تراجع أشكال التضامن التقليدية لصالح سياسات وبرامج الدولة الرامية إلى تفعيل الاقتصاد التضامني وتحقيق الحماية الاجتماعية للأفراد خصوصا أولئك المنتمين إلى الفئات الهشة وفي وضعية صعبة، وبهذا أوكلت مهمة المساعدة الإجتماعية بدرجة أولى إلى جهاز الدولة في إطار تضامن مؤسساتي مهيكل.
لقد شكل هذا الحضور انحصارا للأشكال التقليدية للتضامن وأخذها قوالب جديدة خصوصا مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثتها الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل الحديثة، حيث أصبحنا نشهد اليوم أشكالا جديدة من التضامن كحملات على تطبيقات الفيسبوك أو تويترللتضامن “هاشتاگ” أو إنشاء مجموعات فيسبوك أو واتساب لجمع التبرعات، زيادة على أشكال التضامن في صيغته القانونية كالجمعيات والتعاونيات أوالنقابات، وغير ذلك من الأشكال التي اعتمدها الشباب كوسيلة للتضامن والتعاون، هذا بالإضافة إلى ما يعرف ب “تارزيفت” الذي ما زالت قائمة بالمجتمع اليوم وهي الهدية المقدمة لأهل العريس أو العروس بمناسبة الزفاف والتي تحمل في طياتها نوعا من التضامن على مستلزمات ومتطلبات إقامة العرس المكلفة.
لقد خلق التغير الحاصل تجاورا في الأشكال التقليدية مع أشكال أخرى عصرية أواتخاذ الأشكال التقليدية حلة جديدة أو اختفائها بصفة نهائية وتجاوزها، إلا أن هذا لا يعني اختفاء سلوك التضامن الذي يطفو بين الحين والآخر كلما دعت الضرورة لذلك كما هو الشأن في الفترة التي عرفت فيها البلاد ككل بلدان العالم أزمة اقتصادية بسبب جائحة كورونا. والتي دعت إلى مساعدة الغير ممن توقف عن العمل إثر الجائحة أو تأثر بأي شكل من الأشكال بها. فالبرغم مما قدمته مؤسسات الدولة من دعم مالي أوغدائي لم يثنِ الأفراد عن مساعدة الجيران والأقارب.
هكذا إذن يعبر التضامن الاجتماعي عن التزام الأفراد بالأهداف المشتركة المتعارف عليها وتبنيهم نفس المبادئ والقناعات وميلهم إلى تحقيق المصلحة العامة، وهو ما يحقق اندماج الأفراد داخل مجتمعهم وتلاحمهم، كما يسهم في تقوية الروابط الإجتماعية، ولذلك فإن تكريس قيم التضامن ودعم سلوكيات التعاون والمساعدة يضمن تماسك المجتمع وانسجامه واستمراريته، وبهذا يبلغ تعزيز التضامن درجة الحفاظ على الحياة الاجتماعية وحماية المجتمع من التفكك والزوال وتنامي الفردانية والسلوك الأناني المعادي للمصلحة العامة، وكذلك محاربة الفقر وتقليص الهوة والفوارق الاجتماعية.
الزْوَايا و التنمية في مجتمع البيضان
إن لمفهوم “الزاوية” في الثقافة البيضان دلالة خاصة، لها دعامات و أركان. و قد ارتبطت في المجتمع الصحراوي بقبائل محدودة، عنيت بالشؤون الدينية و تربية المجتمع على القيم الإسلامية.
الحكاية الشعبية الصحراوية، خزّان لغوي و ثقافي
اشترك الحكايات الشعبية في الصحراء بصفة عامة مع الأمثال والألغاز وغير ذلك في كونها ذلك المنقول الشفاهي بالتوارث عبر الأجيال، والذي لا يُعرف مؤلّفُه على وجه التحديد،
عناية علماء الصحراء و شنقيط بالحديث النبوي الشريف
لقد نال علم الحديث وفقهه شرف العناية والاهتمام من لدن علماء الإسلام على مر العصور وتعاقب الدهور، فوضع علماء الجرح والتعديل أصولا علمية و قواعد و مناهج كلية لتلقي