الحمد لله وحده الذي خلق فأحسن خلقه والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى من اتبع هديه.
أما بعد:
لقد نال علم الحديث وفقهه شرف العناية والاهتمام من لدن علماء الإسلام على مر العصور وتعاقب الدهور، فوضع علماء الجرح والتعديل أصولا علمية وقواعد ومناهج كلية لتلقي الروايات الحديثية اتسمت بالصرامة والحزم في قبول الأحاديث النبوية وتمحيصها ومعرفة صحيحها من سقيمها وتقنين مظانها وعد متونها، امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”، وهو حديث متواتر رواه عنه نحو ثمانين صحابيا وعن كل منهم الجمع الغفير ويفهم منه احتمال الكذب عليه ومن لوازم هذا الاحتمال الحذر والاحتياط في تلقي الحديث لاحتمال حصول الكذب، وقد تلقى الصحابة والتابعون والعلماء المجتهدون والمحدثون البارعون هذه التوجيهات النبوية فتوجهوا إلى الأحاديث النبوية حفظا وصيانة وضبطا وإتقانا فقننوا طرق وضوابط اختبار الرواة من خلال أصلين عامين هما نقد المتون ونقد الأسانيد وفحصها، قال ابن سيرين رحمه الله” لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم”، وقال عبد الله بن المبارك” الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.
فكان من فوائد ذلك إنتاج مصنفات علمية هائلة في علم الحديث ومتنه، ككتب الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والمصنفات وغيرها من أمهات الصناعة الحديثية، بالإضافة إلى كتب علم الحديث وأقسامه وصفاته ودراسة أحول رجاله، ككتاب” المحدث الفاصل بين الراوي والواعي”، لأبي عبد الرحمان الرمهرمزي المتوفى سنة 360 للهجرة وكتاب” معرفة علوم الحديث” للحاكم النيسابوري لمتوفى سنة 405 للهجرة، وكتاب” الكفاية في علم الرواية” للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 للهجرة، والمقدمة في علوم الحديث لابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643 للهجرة، و”تدريب الراوي في شرح تقريب النووي” للسيوطي، المتوفى سنة 911 للهجرة، إلى غير ذلك من المصنفات التي ألفها علماء الإسلام الربانيون وحفاظه الراسخون، في مختلف الأمكنة والأزمنة.
وقد كان لعلماء الصحراء وشنقيط نصيب من هذا الاهتمام، فتنافسوا في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه فانكبوا على دراسة متونه واعتنوا بها وبرواتها ورواياتها ونسخها حصرا وتحقيقا وسردا وحفظا صيانة وإتقانا، فمنهم من اهتم بدراسة فقه الحديث واستنباط أصوله وقواعده، وبيان أنواعه كالصحيح والحسن والضعيف والمسند والمتصل والمرفوع والموقوف والمقطوع والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والمنكر، ومنهم من اهتم بمعرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد ومعرفة زيادات الثقات وحكمها ومعرفة الأفراد ومنهم من اهتم ببيان صفة من تقبل روايته ومن ترد، ومنهم من اعتنى بدراسة كيفية سماع الحديث وتحمله وكتابته وضبطه وصفة روايته ومعرفة غريب ألفاظه وناسخه ومنسوخه، ومنهم من اعتنى بشرحه وتفسيره.
وقد اشتهرعن علماء شنقيط عموما والصحراء على وجه الخصوص سرد كتب الحديث في المواسم والمناسبات والأعياد الدينية، تبركا بها ومظهرا من مظاهر محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تكاد تجد خزانة من خزائن وزوايا أهل الصحراء وشنقيط إلا ويتوسطها كتاب من كتب الحديث كجوهرة العقد الفريد.
لقد كان لعلماء الصحراء وشنقيط صيت واسع ومجهود عظيم في الذود عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فألفوا الكتب وتغنوا بالقصائد وأبدعوا بتقاليدهم وعادتهم الجميلة في التعبير عن ومحبتهم وتبركهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فجادت قرائحهم بمناهج ومصنفات علمية أبانوا فيها عن علو كعبهم في حفظهم وعنايتهم بالسنة النبوية المطهرة.
ومن أبرز ومشايخ وعلماء شنقيط والصحراء الذين أولو علم الحديث وفقهه بالغ العناية والاهتمام نجد العلامة الحسن بن آغبدي التيشيتي المتوفى سنة 1123 للهجرة، في أرجوزته الموسومة بالكامل” روضة الأزهار فيما اصطلح عليه من الآثار”، محمد بن أبي مدين الديماني المتوفى سنة 1396 للهجرة، في كتابه” الصوارم والأسنة في الذب عن السنة”، وشارح ألفية العراقي، والمحدث والعالم الشهير محمد فال بن محمدن بن أحمد بن العاقل الديماني المتوفى سنة 1334 للهجرة، له معجم في الصحابيات، ومحمد حبيب الله بن مايابا الجكني المتوفى سنة 1363 لهجرة، في كتابه” زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم”، ثم شرحه بكتاب سماه” فتح المنعم في شرح زاد مسلم، وله كتاب آخر سماه” فتح القدير المالك في شرح موطأ الإمام مالك”، ومحمد محمود بن الشيخ سعد بوه الشريف الملقب أباه مولاي هاشم المتوفى سنة 1385 للهجرة له نظم في “الناسخ والمنسوخ من الحديث”، ومحمد يحيى الولاتي المتوفى سنة 1330 للهجرة، في كتابه “الناسخ والنسوخ”، وكتاب” نور الحق الصبيح في شرح أحاديث الجامع الصحيح”، ومحمد بن محمد المختار بن أحمد فال العلوي المتوفى سنة 1375 للهجرة، كتب نظما بديعا في موضوعه وأسلوبه في علم “غريب الحديث” والعلامة محمد بن محمد سالم المجلسي المتوفى سنة 1302 للهجرة، ألف موسوعة حديثية وسمها” بالنهر الجاري في شرح صحيح البخاري”، وهو كتاب مهم في بابه يقع في سبعة أجزاء ما زال مخطوطا ينتظر رحمة أهل العلم والمعرفة لينفضوا عنه غبار التآكل والضياع.
بالإضافة إلى منظومة طلعة الأنوار لمجدد العلم في بلاد شنقيط العلامة النحرير والفقيه النبيه عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي المتوفى سنة 1233 للهجرة، الذي كتب منظومته الشاملة في علم الحديث النبوي ولأهميتها ومكانتها بين مصنفات علم الحديث سنقف على أهم مضامينها وأبرز محتوياتها بعد التعريف بمؤلِفها وبيان منزلته ومكانته بين العلماء.
ترجمة فضيلة العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي.
هو العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام محنص أحمد العلوي نسبة إلى قبيلة العلويين (إدوعل)، إحدى القبائل الموريتانية المشهورة بكثرة الشعراء والأدباء والعلماء.
ولد رحمه الله بقرية تججكة بمنطقة تكانت بموريتانيا، فاعتنى به والده من الصغر حتى حفظ القرآن الكريم كعادة شنقيط، أخذ العلم على يد العديد من العلماء في موريتانيا وخارجها، فقد أخذ عن الشيخ المختار بن بونا الجكني، والشيخ سيدي عبد الله الفاضل اليعقوبي، والحاج أحمد خليفة العلوي، ثم توجه إلى فاس ومراكش بالمغرب وأقام بها تسع سنين يأخذ عن علمائهما ويأخذون عنه، ثم توجه إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، ضمن الوفد الذي بعثه سلطان المغرب في ذلك الوقت سيدي محمد بن عبد الله، فمر بمصر واجتمع بعلماء القاهرة واستفاد منهم واستفادوا منه، ثم رجع إلى المغرب بعد أداء مناسك الحج فأكرمه السلطان وأهداه خزانة كتب نادرة رجع بها إلى وطنه و جلس يعلم الناس ويؤلف الكتب، لأزيد من أربعين سنة حتى ذاع صيته في الآفاق قال عنه الشيخ المختار الكنتي:” ما تحت قبة السماء أعلم من هذا العلوي”، من أشهر مصنفاته “مراقي السعود ألفية في الأصول”، و”نيل النجاح في مصطلح الحديث” وكتاب” يسر الناظرين شرح منظومة روضة النسرين في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم”.
مظاهر عناية العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي بالحديث النبوي الشريف من خلال منظومته طلعة الأنوار.
أ: وصف القصيدة شكلا ومضمونا ومنهجا.
تعتبر منظومة طلعة الأنوار في علم آثار النبي المختار أفضل المختصرات لألفية العراقي مع بعض الزيادات عليها، وقد تميزت هذه المنظومة بالشمول والإحاطة في مضامينها ومحتوياتها لشتى الأصول والعلوم الحديثية، كما تميزت من حيث الشكل بسلاسة ألفاظها ووضوحها وسهولتها مما ييسر حفظها واستيعابها وفهمها، وقد نظمها المؤلف رحمه الله في ثلاث مئة وثمانية أبيات، اعتمد فيها على نظام الشطرين، ثم جعل عليها شرحا مميزا سماه هدي الأبرار على طلعة الأنوار”، يقول الناظم في ذلك” لما كان علم الحديث أصلا من الأصول ولا يكون لأكثر الأحكام دونه حصول، إذ عليه مدار الحديث الذي جعله الله للقرآن سلما يخصص عامه ويبين ما كان مجملا. وكان في هذه البلاد كالكبريت الأحمر حتى أقوى منه كل بلد وأقفر، ندبني إلى منظومة فيه زوال تلك الغربة رجاء الفوز منه تعالى بالقربة، والأمن في القبر والحشر والجسر من الكربة. ثم لما من الله تعالى علي بتلخيصها وتهذيبها بعد تخليصها، ندبني إكمال المرام إلى شرح سهل يشفي الغرام يسمى:( هدي الأبرار على طلعة الأنوار)”.
وقد تناول فيه رحمه الله جوانب منهجية متعددة فيبدأ بشرح الكلمات الواردة في البيت وإعرابها والاستشهاد بكل ما يعضد شرحه للبيت من الآيات والأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء والمحدثين، مع العلم أن هذا المنهج غير موحد في جميع الأبيات، مما يتضح أنه يستعمل الاستشهاد بحسب السياق والمقام.
ب: نماذج وأمثلة من شرح أبيات القصيدة.
يقول الناظم رحمة الله عليه:
سلطانه في الأرض والسماء رب الجلال وعلى العلاء
شرح الناظم هذا البيت بقوله” سلطانه: ملكه وقهره، وهو عام على السموات والأرض وما فيهن قال تعالى” وَهُوَ اَ۬لذِے فِے اِ۬لسَّمَآءِ الَٰهٞ وَفِے اِ۬لَارْضِ إِلَٰهٞۖ وَهُوَ اَ۬لْحَكِيمُ اُ۬لْعَلِيمُۖ ” والرب: وزنه فعل بكسر العين وهو الإله أو المصلح، والجلال العظمة. وعلي بسكون الياء أصله التشديد خفف للوزن، ومعناه مرتفع، والعلاء بالفتح: الرفعة، أي: مرتفع الرتبة على كل مرتفع”
يقول الناظم رحمة الله عليه:
فاقد شرط للقبول تجتني شرطا من التي مضت للحسن.
وشرح الناظم هذا البيت بقوله:” فاقد شرط، خبر خبر مبتدأ محذوف، أي: الضعيف فاقد.. الخ، و”نجتني” مبدوء بنون العظمة وبالجيم معناه: نقصد، يقال: اجتنبنا ماء، أي: “وردناه”. يعني أن الحديث ضعيف هو الفاقد شرطا من شروط الحسن التي مضى ذكرها وهي اتصال السند فلا بد منه إن لم ينجبر المرسل بما يؤكده كما سيأتي، والعدالة والسلامة من العلة والشذوذ”.
لقد ظل علماء الصحراء وشنقيط دوما حراس حديث النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، عدول وأمناء على سنة نبيهم وسراج هديهم، إلى أن بلغ شأوا عظيما ومكانة مهيبة في نفوس العامة والخاصة، وهذا من فضل الله على هذه الأمة العظيمة التي قيض الله لها علماء مجددين على رأس كل مئة سنة يفحصون ويميزون بين السنة النبوية الصحيحة وما اختلقه الكذابون الواهمون وبهذا يتحقق الحفظ الموعود في السطور والصدور إلى نفخة الصور.
الزْوَايا و التنمية في مجتمع البيضان
إن لمفهوم “الزاوية” في الثقافة البيضان دلالة خاصة، لها دعامات و أركان. و قد ارتبطت في المجتمع الصحراوي بقبائل محدودة، عنيت بالشؤون الدينية و تربية المجتمع على القيم الإسلامية.
الحكاية الشعبية الصحراوية، خزّان لغوي و ثقافي
اشترك الحكايات الشعبية في الصحراء بصفة عامة مع الأمثال والألغاز وغير ذلك في كونها ذلك المنقول الشفاهي بالتوارث عبر الأجيال، والذي لا يُعرف مؤلّفُه على وجه التحديد،
عناية علماء الصحراء و شنقيط بالحديث النبوي الشريف
لقد نال علم الحديث وفقهه شرف العناية والاهتمام من لدن علماء الإسلام على مر العصور وتعاقب الدهور، فوضع علماء الجرح والتعديل أصولا علمية و قواعد و مناهج كلية لتلقي