صناعة الملكة الأخلاقية عند مسكويه وأبي حامد الغزالي

إن الناظر في التراث الفكري لكل من مسكويه والإمام الغزالي سيلاحظ أنهما عاشا تحديات أخلاقية كبيرة كان لها أثر بالغ في إنتاجهما التربوي والأخلاقي. لذلك بدا سؤال الأخلاق حاضرا في كتاباتهما بشكل جلي، وتكاد ترتكز جهودهما في بناء نظرية أخلاقية تسعى إلى الانتقال بالسلوك الأخلاقي المستثقل إلى سلوك يمتزج بالعادة والطبع إلى أن يصير ملكة أخلاقية تبعث الفعل الحسن من النفس بدون فكر ولا روية خطابا وممارسة وسلوكا. ومما يلاحظ أيضا أن دراستهما لمباحث الأخلاق قدمت إجابات واقعية تتجاوز البحث عن سؤال الأخلاق معرفيا من حيث الماهية والجوهر إلى الدراسة السلوكية القائمة على التجريب والتمثيل قصد إصلاح السلوك الإنساني وربطه بمصيره ووجوده.
لذلك جاء الدرس الأخلاقي عند مسكويه والغزالي مؤكدا على إمكانية تغيير الأخلاق من الخلق السيء إلى الخلق الحسن، والجنوح بالإنسان إلى تحصيل الكمال والسعادة عن طريق المجاهدة وتهذيب النفس. ولعل الرامق إلى الاختيار التربوي الذي سلكه كل من مسكويه والغزالي في صناعة الملكة الأخلاقية سيجد أنهما ينطلقان من أن “الأفعال إنما هي نتائج الأخلاق”، وأن الأخلاق “أفعال وأعمال تظهر عند مشاركة الناس ومساكنتهم”. وأن هذا التغيير الذي يلحق الأفعال ممكن في حق الطباع البشرية إذا وجد شرط التربية، فما دام الله وضع في الإنسان قوة لقبول الكمال والتمام؛ فإن تغيير الأفعال المستقبحة إلى المحمودة ممكن وآكد شرعا. لكن هذه الصناعة الأخلاقية في رأيهما تحتاج إلى صناعة تعليمية مرتبة على أسس علمية ومنطلقات فكرية وآليات تربوية لفهم فلسفة النفس وعلاقتها بالبدن، وفي ذلك يقول مسكويه: “هذه الصناعة هي أفضل الصناعات كلها، أعني الأخلاق التي تُعنى بتجويد أفعال الإنسان بما هو إنسان”.

و مهما يكن من أمر، يكاد يتفق كل من مسكويه والغزالي على أن الطريق إلى صناعة الملكة الأخلاقية يكمن في معرفة ماهية النفس وتركيبتها وقواها (التفكيرية، والشهوية، والغضبية) و محركها و كمالها(العدالة) و غايتها(السعادة). و مع ذلك نجدهما يختلفان في مقاربة صناعة الأخلاق، حيث ينزع مسكويه -في منهجه- إلى العقل، فيبدو شحيحا في الاعتماد على النص مقابل توغله في الفلسفة اليونانية، في حين نجد الإمام الغزالي ينزع إلى الروح والمجاهدة المبنية على النقل المسهب من نصوص الكتاب والسنة. مما سينتج عن هذا الاختلاف في المرجعية من نتائج متباينة في آرائهما حول صناعة الملكة الأخلاقية، فمسكويه يربط تحصيل الأخلاق بشرط الاجتماع المدني، ونقد الاعتزال والخلوة الصوفية؛ لأن ذلك يفضي في رأيه إلى تعطيل الغرائز الفطرية، بحيث يستحيل معها الحكم على الإنسان بالخير أو الشر. فحين يظهر الإمام الغزالي متشبثا بالخلوة والاعتزال مدة من الزمن بحجة تهذيب النفس ومجاهدتها وتزكيتها. فمسكويه يفصل بين الأخلاق الاجتماعية، والأخلاق العرفانية الباطنية، وينحاز إلى الأخلاق الاجتماعية، خلافا للإمام الغزالي الذي أوغل في المعرفة الباطنية وأمعن في الأخلاق الفردية. ويرجع سبب هذا الاختلاف في تقديري إلى أن مسكويه سعى في فلسفته الأخلاقية إلى تحقيق السعادة، في حين سعى الغزالي إلى تحقيق المعرفة الإلهية.
وختاما، يكاد يتفق كل من مسكويه والغزالي على أن الأخلاق والفضائل فيها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، وأن الله وزع على الناس أخلاقهم، وأن كل الموجودات على الأرض لها ملكات تميزها عن غيرها، وكل فرد ملزم بأداء وظيفيته الأخلاقية، فمن أتى بها كاملة فقد حقق وجوده، وإن قصر عن الإتيان بها حط من مرتبته ووظيفته الإنسانية، ومن ثم فإن الوصول إلى فضيلة السعادة لا يتم إلا بتحصيل الاجتماع المدني، وأداء كل فرد فضيلة من الفضائل الموزعة بين الخلائق.

مقالات في دراسات التراث الحساني

الزْوَايا والتنمية في مجتمع البيضان الزاوية المعينية في القرنين 19 و 20 أ نموذجا

الزْوَايا و التنمية في مجتمع البيضان

إن لمفهوم “الزاوية” في الثقافة البيضان دلالة خاصة، لها دعامات و أركان. و قد ارتبطت في المجتمع الصحراوي بقبائل محدودة، عنيت بالشؤون الدينية و تربية المجتمع على القيم الإسلامية.

الحكاية الشعبية الصحراوية، خزّان لغوي و ثقافي

الحكاية الشعبية الصحراوية، خزّان لغوي و ثقافي

اشترك الحكايات الشعبية في الصحراء بصفة عامة مع الأمثال والألغاز وغير ذلك في كونها ذلك المنقول الشفاهي بالتوارث عبر الأجيال، والذي لا يُعرف مؤلّفُه على وجه التحديد،

عناية علماء الصحراء وشنقيط بالحديث النبوي الشريف

عناية علماء الصحراء و شنقيط بالحديث النبوي الشريف

لقد نال علم الحديث وفقهه شرف العناية والاهتمام من لدن علماء الإسلام على مر العصور وتعاقب الدهور، فوضع علماء الجرح والتعديل أصولا علمية و قواعد و مناهج كلية لتلقي 

مركز الصحراء للدراسات الإنسانية والاجتماعية

تأسس مركز الصحراء للدراسات الإنسانية والاجتماعية سنة 2022 بمدينة العيون عاصمة الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، والمركز مؤسسة بحثية مستقلة ذات دور رائد في البناء العلمي والأكاديمي، يسعى المركز ليكون مرجعاً علمياً على مستوى الجهوي والوطني والدولي في ترشيد السياسات ورسم الاستراتيجيات بأسس علمية وأكاديمية وبتجليات تنموية.

اترك تعليقاً