ملخص البحث:
إن لمفهوم “الزاوية” في الثقافة البيضان دلالة خاصة، لها دعامات وأركان. وقد ارتبطت في المجتمع الصحراوي بقبائل محدودة، عنيت بالشؤون الدينية وتربية المجتمع على القيم الإسلامية. إلا أنها لم تقتصر على الجانب الروحي فحسب، بل كانت التنمية المجتمعية في شتى أنواعها مما أنيط بها في ذاك المجتمع. و لعل تسليط الضوء على الزاوية المعينية كنموذج يبين مظهرا من مظاهر تلك التنمية، و يكفي تشييدها لحاضرة السمارة، وسط صحراء قاحلة أبرز مثال على ذلك التصوف الذي يضع المحيط في صلب اهتماماته.
مشكلة البحث:
ليس “الزوايا” كعلم على قبائل يطلق على كل قبيلة ما لم تتحقق فيها أركان و دعامات، جعلت المجتمع الصحراوي ينيط بها الأعمال الدينية والاجتماعية، وكذا الاقتصادية:
فما الدعامات الأساسية التي تجعل القبيلة تلحق بــ(الزوايا) في مجتمع بيضان؟
وإذا كان الشيخ ماء العينين قلقميا وقبيلته من “الزوايا”، فما الذي قدمته زاويته في سبيل التنمية الاجتماعية والاقتصادية لمحيطها؟
منهج البحث:
اتبع الباحث مناهج عدة في البحث:
المنهج التاريخي: في تتبع الأحداث التاريخية المتعلقة بدور “الزوايا” في التنمية عموما، والزاوية المعينية بذات الخصوص.
المنهج الوصفي: بوصف المجال والمحيط والحقبة التي برزت فيه الزاوية المعينية.
خطة البحث:
تمهيد
المحور الأول: “الزوايا” في مجتمع بيضان: المفهوم والدعامات
المحور الثاني: الزاوية المعينية ودورها التنموي في منطقة الساقية الحمراء
خاتمة
تمهيد:
تنقسم القبائل الصحراوية التي تقطن منطقتي الساقية الحمراء ووادي الذهب إلى ثلاث مجموعات، وذلك تبعا للوظيفة الاجتماعية التي يقوم بها أفرادها داخل النسيج الاجتماعي العام:
المجموعة الأولى: ويطلق عليها اسم “القبائل المحاربة” “أهل الشوكة” و” بنو حسان”، وذلك بسبب قوتها وبأسها أمام باقي القبائل الصحراوية، ويتميز أبناؤها بحبهم الشديد لحمل السلاح والتنقل بين مختلف المناطق الصحراوية. وبسبب هذه القوة الحربية تمكنت تلك القبائل من فرض بعض الضرائب على القبائل الصغيرة مقابل توفير الحماية لهم.
المجموعة الثانية: وتسمى باسم “قبائل الزوايا”، وذلك بسبب اشتغال أبنائها بالعلم والدين وابتعادهم عن حمل السلاح، فقد كانت سندا قويا للقبائل المحاربة؛ لأنها تكفلت بتهذيب أخلاق أبناء المحاربين، وتلقينهم مبادئ الدين الإسلامي وتحفيظهم القرآن الكريم.
المجموعة الثالثة: ويطلق عليها اسم “اللحمة” أو “الأتباع”، وهي القبائل الغارمة، التي لم تهتم لا بالعلم ولا بالسلاح؛ فبسط عليها الطرفان الأعليان نفوذهما، وسخروها للرعاية وتنمية الماشية.
والمراد من هذه الورقة أصالة هو التوسع في الحديث عن وظائف المجموعة الثانية ومهامها في التنمية. فإن تلك الوظائف كانت ترجع في أساسها إلى الاهتمام بالحياة الروحية لأهل الصحراء، والتي كانت قائمة قبل القرن الثامن عشر على نوع من التصوف يمكن إطلاق اسم “تصوف الفقهاء” عليه. ويرجع ذلك إلى أن الخطاب الفقهي كان مسيطرا في الحياة الفكرية والدينية في حواضر الساحل الصحراوي؛ بفعل تعاظم نفوذ الفقهاء، ووقوفهم بصرامة أمام كل النزعات الفكرية التي تخرج على الخطاب المالكي النصاني ومتمماته. ولعل المساجلات العلمية التي وقعت بين ابن بونة الجكني المدافع عن هذا الخطاب، وبين الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي تبنى التصوف الروحاني، والورد القادري تكشف تلك الحالة التي كان يعرفها ذاك القطر في تلك الحقبة.
ومفهوم “الزاوية” كان ذا طابع اجتماعي عرفت به بعض القبائل الصحراوية بالدرجة الأولى، فكان التصوف الغالب عليها تصوفا اجتماعيا غير مختصر على النفس وتزكيتها، أو تلاوة أذكار وتكرارها، بل تخطاها للقيام بدور تنموي في المحيط. وقد كانت الزاوية المعينية أجلى مثال وأوضحه على السعي في عمارة الأرض وتنمية المجال.
المحور الأول: “الزوايا” في مجتمع بيضان: المفهوم والدعامات
تندرج المنطقة الممتدة من واد نون شمالا إلى وادي الذهب جنوبا ضمن المجال المعروف تاريخيا باسم “تراب البيظان”، وهي تسمية أطلقت على الفضاء الممتد من جنوب سوس إلى نهر السينغال، وقد اتخذ مفهوم البيظان “بعدا ثقافيا أكثر مما ارتبط بالعرق أو بلون البشرة، فالبيظاني هو ذلك الشخص الذي يتكلم اللهجة الحسانية ويرتدي زيا مميزا، وله هوية ثقافية تميزه عن الساكنة المجاورة”
وإذا كان مصطلح الزوايا في الاصطلاح الصوفي يقصد به أمكنة للتعبد وفضاء للتعلم؛ فإن مصطلح الزوايا في المجتمع البيظاني اتسع لقبائل قامت بوظائف روحية واجتماعية واقتصادية، فكانت “علما على القبائل المختصة بالشؤون الدينية والوظائف التعليمية من تعليم وتدريس. إضافة إلى الشؤون الاقتصادية من حفر الآبار وتنمية المواشي وتسيير القوافل التجارية”
أضحت كلمة “الزوايا” تطلق عرفا في الثقافة البيظانية=على مجموع القبائل المهتمة بالعلم ونشره، فهم حملة العلم والدين بالبلاد قاطبة. وقد قال فيهم الشيخ بابا بن الشيخ سيديا الإبيري (ت:1342هـ): ” سموا الزوايا لملازمتهم للزوايا جمع الزاوية، وهي أيضا موضع العبادة”. وأورد محمد محمود بن محمد سالم المجلسي تعريفا تاريخيا لهم، حيث نقل أن إبراهيم الأموي قاضي مجلس الأمير اللمتوني أبي بكر اللمتوني، وجد قبيلة مدلش: ” كانت له زاوية يأوي إليه فيها التائبون الذين يريدون الانقطاع للعلم والعبادة وترك أمر الحرب وحمل السلاح، وأنه كان منهم أجداد قبائل من الزوايا فصار يقال لهم الزاوية، أي أهل الزاوية ونحو هذا “.
وينقسم “الزوايا” إلى عدة قبائل، ولا تتميز هذه القبائل بانتساب عرقي محدد. وقد ذكر المختار ولد حامد أصنافها، فمنهم المنحدرون من بقايا المرابطين كقبائل مسومة وتجكانت ولمتونة وأبدوكل وتاشدبيت، وتندغة وإدا ولحاج. وكذا المنتسبون إلى الأنصار كأولاد الحاج عثمان والصيام من وإدا ولحاج، ثم إيديبسات، وكذا المنتسبون إلى قريش ومنهم المدلش الذين ينتسبون إلى بني أمية، ثم قبيلة تركز التي تنتسب إلى عقبة بن نافع الفهري، وكذا قبيلة كنتة… وعلى كل فإن منها من هو عربي صميم كقبيلة أهل “بارك الله” و”القلاقمة”. وقد يكون منها من هو ذو أصول صنهاجية كقبيلة “تاكونانت” و”تجكانت”. وقد يكون من بينها من هو ذو أصول إدريسية شريفة كقبيلة الشرفاء أولاد بوعيطة، وقبيلة الشرفاء أبناء أبي السباع.
والمرجع في تحديد مفهوم “الزوايا” هو القيمة الاجتماعية التي تقوم بها، فكل قبيلة أو مجموعة بشرية مهما صغرت أو كبرت تعنى بالعلم والدين تعلما وتعليما وتتسم بالتدين=هي فئة زاوية.
ومن أهم ما تتسم به “الزوايا” هو الكرم وحسن الضيافة وأداء الوظائف الاقتصادية الضرورية لمجتمع البيظان كحفر الآبار وصيانتها، ورعاية التجارة، والطب التقليدي. وقد اشتهروا بعدائهم الشديد لفئة ” إيكاون” التي كانوا يرون فيها عامل هدم للبنية الاجتماعية البيظانية .
وإذا كان المختار ولد حامد قد حدد الدعائم التي تقوم عليها القبيلة الزاوية: “مسجد وإمامة، ومحظرة (زاوية)، وبئر، وراع وطبيب وممانع”، فإن محمد بن بياه حصر قواعد التزاويت -أي الانتساب إلى الزوايا- في أربعة أركان، وقال رجزا:
ركن “التزاويت” بدال علما مير، قرى، تعلم، حفر لما
وكل من تسقط بعض الأربع منهم إذا تظلعه إن تظلع
وكل من تتم فيه الاربـــــع فهو على النهج القويم يربع
فهذه الدعائم أو الأركان تبين الأبعاد الروحانية والاجتماعية والاقتصادية التي تنهض بها الزاوية في سبيل التنمية أيا كان نوعها.
و قد أفرد لهم محمد ولد سعيد اليدالي (ت:1166هـ) كتابه الشهير” شيم الزوايا”. ومما قاله فيهم فيما يخص بتنمية المجتمع: “أما شيم الزاوية، فمنها: الصبر بأنواعه، ومنه: صبرهم على ما يطرأ على البئر، والمراح، والمراعي، مما يثقل عليهم”.
ويقول عنهم الشيخ محمد الإمام: “فالزوايا بالجملة من أحفظ الناس لأنسابهم، وهم أهل المدارس العامرة، والتآليف المفيدة، والمشايخ الكبار، والأموال الطائلة. وهم أهل الاشتغال بمصالح الأرض غرسا وحرثا وتجارة وحفرا للآبار وإجراء لعيون الأنهار، وهم صدر المنتدى، ومصلحو الثأر وأهل القضاء والفتوى، محافظون أشد المحافظة مما يزري بعرضهم أو يخل بمروءتهم”
ويجمل تلك الشيم أيضا د. يحيى بن البراء بقوله: “فخر البلاد وعمارتها ونورها علما ودينا وثروة، فيهم أهل المدارس العامرة، والتآليف المفيدة، والمشايخ أهل حلق الذكر، والدين القويم، والأموال الطائلة، أهل إنباط آبار، وتفجير العيون، وحرث الحبوب وغرس الأشجار، وأهل التجارة، وهم السفراء بين القبائل ومصلحو الثأر، وأهل القضاء والفتوى، والمحافظة على الدين والمروءة”
فـ”الزوايا” اهتمت بالإنسان وبالمجال معا، فكان تصوفها تصوفا اجتماعيا، يعنى بمعرفة المجتمع وفهمه والاطلاع على أحواله وخفاياه، والانغماس بين الناس لمعرفة شؤونهم، والسعي لخدمتهم. لذلك استحقت القيادة الروحية والعلمية وإدارة الشؤون الاقتصادية للمجتمع، ومشاركة بني حسان-أهل الشوكة- في السلطة السياسية. “فتمتعت بذلك مركزا ومكانة اجتماعية لم تنحصر في المجالات التربوية والتعليمية، ولكن دعمت قاعدتهم الاقتصادية، تطورت تدريجيا هذه القاعدة لتنتهي إلى متغيرات بنيوية أصبحت تفرق اجتماعيا بين “الزاوي” المتشبث بقيم وممارسات “الزوايا”، و”المرابط” الذي اقتصر على ممارسة الطقوس مبتعدا عن أخلاقياتها، و”التلميذي” الذي فقط الدين والمروءة”
ويشار ههنا إلى أن انتشار الزوايا في منطقة “الكبلة” من مجال البيظان كان أكثر من انتشارها في منطقة الشمال، أي في مجال تكنة بوادي نون والساقية الحمراء، حيث إن دراسة الأنثربولوجي كارو باروخا لهذه المنطقة أكدت على قلة الزوايا بمنطقة النفوذ الإسباني الذين كان يطلق عليهم فيه “أهل لكتوب”. كما يطلق عليهم الشرفاء، الذين يشتركون في الخاصية الدينية مع الزوايا.
المحور الثاني: الزاوية المعينية ودورها التنموي في منطقة الساقية الحمراء في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20:
لقد كانت منطقة الساقية الحمراء مما ينطبق عليها كلام المختار السوسي: “لا قرية فيها، ولا ساقية، ولا سوق تساق إليها السلع… وإنما ينزلها أهل المواشي، فيسيمون أنعامهم بِواديها وبَواديها، ثم يرتحلون فلا يبقى فيها أنيس”، وفي ذلك أيضا يقول صاحب “الوسيط” : “وكانت الساقية الحمراء، خالية لا أنيس بها لشدة الخوف، ولقحولتها دائما”
وكان هذا المجال الشاسع متوزعا بين عدة قبائل، كما كان معبرا رئيسيا للتجارة بين ضفتي الصحراء. فكانت القبيلة والتجارة الصحراوية مدخلين هامين لدينامية المجال وتحولاته.
هذان المقومان هما ما تم التركيز عليهما من الشيخ ماء العينين من خلال زاويته المعينية ليضع أول لبنة في طريق تنمية بلاد الساقية الحمراء ببناء حاضرة السمارة بإيعاز من المولى عبد العزيز(1894-1908). فقد أسس هنالك جامعة علمية وفكرية أطلق عليها اسم “القصبة”، تبلور من خلالها مشروعه الفكري والثقافي. فتدفق التلاميذ والأتباع من كل حدب وصوب، واستقروا يبنون ويغرسون، ويتعلمون.
وقد كانت الأرض التي بنيت عليها الزاوية مواتا ” حتى عمرها الشيخ ماء العينين، وبنى فيها الدور، وغرس النخل؛ فسهلت المواصلة بين شنقيط وغيرها من المواضع المغربية”
وقد جاء في وثيقة كتبها العالم الثقة الشيخ سيدي محمد بن حامني الغلاوي، ما نصه:
“الحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده،
وبعد، فقد أشهدني شيخنا الشيخ ماء العينين بن شيخه محمد فاضل بن مامين أن أرض السمارة التي أحياها بعدما كانت مواتا أشد الموات، أن كل من عمر شيئا منها، من بناء أو غرس أو غير ذلك، فعمارته على وجه الإعراء، وليست ملكا له يتصرف فيها كيف شاء، وجميع ما أنفقه في عمارته لها، يأخذه من غلتها.
وتاريخ تعمير شيخنا لها وإحيائه لها لأربع خلون من محرم عام 1316هـ.. 25 ماي 1898م, كتبه من شهد عليه بعد الإشهاد بتاريخه مريد الشيخ ماء العينين أعطاه الله قرة العينين سيدي محمد بن عبد العزيز بن حماني”.
لقد “حل الشيخ ماء العينين، وقد عزم على بناء مدينة تكون عاصمة للصحراء، وصلة وصل بين شمال المغرب وشنقيط، وقاعدة لصد عدوان المستعمرين من إسبان وفرنسيين، وقد كان المشروع بالنسبة لأتباع الشيخ ضربا من الخيال خاصة وأن الصحراء كانت تفتقر لمواد البناء الضرورية. فاتصل الشيخ ماء العينين بالسلطان عبد العزيز، وعرض عليه فكرته التي رحب بها وتحمس لها، وأمر بإرسال جميع المواد اللازمة والبنائين المهرة إلى الشيخ. كما أن الصدر الأعظم “باحماد” والقائد “حميدة” قائد طرفاية كانا من مريدي الشيخ، فلم يتوانيا في تزويده بكل ما يحتاجه من مؤن ومواد وحرفيين… وقد دامت مدة البناء والتشييد حوالي أربع سنوات ونصف”
ومع تلك الانطلاقة في البناء والتشييد، أمر الشيخ ماء العينين –رحمه الله- بحفر عدة آبار وقنوات للري، ستحتاجها بساتين وحدائق المدينة المرتقبة، وهكذا تم حفر حوالي 50 بئرا قابلة للاستغلال بوادي سلوان، وكذا غرس آلاف أشجار النخيل التي استقدمت من واحات الجنوب الشرقي المغربي، وكذا من واحات آدرار وشنقيط. وتنوعت البنايات المكونة للمدينة الحديثة، والتي شيدت آخذة بعين الاعتبار الاستجابة لرغبة الشيخ في إنشاء مركز اقتصادي وثقافي. وكبقية المدن تم تشييد الأسواق، فهناك مثلا حي التجار، وزقاق خاص ببائعي الطيب والبخور والأعشاب الطبية.
ولما كانت الوحدة هي أساس التنمية، فقد عمل الشيخ ماء العينين على توحيد القبائل، وقد شيدت تلك القبائل أحياء خاصة بها هنالك، تساهم بصفة منتظمة في ملء مخزن الحبوب الجماعي، وكذا الخزان المائي. وكانت الزاوية المعينية بمثابة مدرسة إحيائية، عملت على تحريك الثقافة الإسلامية في بحر الصحراء الآسن، وربطها بالأصول، وفتحت المجال أمام العلماء للدفاع عن الدين الإسلامي، وجعل المذهب المالكي موحدا على البيعة لأمير المومنين سلطان المغرب لحماية الملة والدين والوطن والمواطنين .
فكانت الطريقة المعينية رسالة نضالية، عملت على إصلاح ذات البين بين القبائل المتناحرة، وغيرت التفرقة بالوحدة في الدين والوطن والمذهب، وأحيت الصلة بالقرآن والسنة، وجعلت من بيعة السلطان عقيدة، تدين من مات وليست في عنقه بالوفاء والسمع والطاعة، وترميه في خندق الجهالة والضلال. “وقد اعتمد الشيخ ماء العينين في تحقيق هذه المشاريع على الرصيد النضالي للفكر الإسلامي، وما يقوم عليه من اهتمام بوحدة الجماعة الإسلامية وحمايتها مما يهددها من أخطار داخلية وخارجية”
لقد سعى الشيخ ماء العينين من خلال طريقته، إلى تهديم كل ما تعرفه نفسية الإنسان الصحراوي من بنيان فاسد، وتصور قاصر للحياة، فأعاد تشكيلها من جديد حسب المنظور الإسلامي الصحيح، وأعاد للمغرب في صحرائه معناه الفكري وإشراقه الروحي.
وبذلك استطاعت هذه الطريقة المعينية الجديدة، أن توحد القلوب في الصحراء، وتقضي على التناحر السائد بين الأفراد، وتؤاخي القبائل، لتجعل من الجميع جبهة متراصة البنيان، موحدة الشعور، مطمئنة في خوضها معركة الجهاد والمجاهدة. فكان من ذلك أن بذل الشيخ جهودا جبارة في حل النزاعات بين “أولاد قيلان” و”الركيبات” بعد سنوات دامت من الصراعات الدموية، وبين “كنتة” و”أولاد بسبع” و”أهل بارك الله” و”أهل بحبينِ” على المياه والمراعي، كما أفلح في حل الخلافات مع قبائل “تكنة” ومصالحتها.
فتميزت الطريقة الصوفية للشيخ عن الطرق المعاصرة لها، بابتعادها عن الانزواء بين أعمدة زواياها والبقاء بعيدا عن الحياة المعيشة .
كما استطاعت هذه الطريقة من خلال زاويتها أيضا، أن تؤسس نوعا من الأمن الاجتماعي، بعد أن وحد زعيمها بين أهلها بإطفاء ما كان مشتعلا بينهم من حرب وحقد وميل إلى الثأر والطغيان، وأصبح الاهتمام بكل من يرد إلى الزاوية، وقضاء كل مآربه مهما كانت شاقة، حتى قال صاحب “الوسيط”: ” ورأيت منه ما حيرني، لأني أقدر من معه في وادي السمارة من الساقية الحمراء، بعشرة آلاف شخص، ما بين أرملة ومزمن، وصحيح البنية، وكل أصناف الناس. وكل هؤلاء في أرغد عيشة، كاسيا من ذلك الشيخ، ويزوج الشخص ويدفع المهر عنده، ويجهز المرأة من عنده، مع حسن معاشرته لهم، لا فرق عنده بين ولده والمحسوب عليه. ولا يمضي عليه يوم، إلا وقد بعث قافلة تأتيه بالمير، وقدمت إليه أخرى تحملها. ومتى بلغ الإنسان قريبا منه، يسمع دوي مريديه يذكرون الله، وينشدون الأدعية..”
ومع بناء السمارة، باشر الشيخ مهامه هناك فنظم الموالد، وأشرف على الرعية، وراقب الأسواق وسير القوافل التجارية ودرب المجاهدين، ولم تأت سنة 1900م حتى كانت مناطق إشعاع الشيخ ماء العينين ممتدة من وادنون حتى أطراف أدرار، وقد استطاع بإخلاصه، وعلاقته المتميزة بسلاطين المغرب آنذاك خاصة سنة 1906م من تحويل الساقية الحمراء إلى مركز هام للتجارة والسياسة.
خاتمة: يتبين مما مر أن “الزاويا” كقبائل مكلفة بالشؤون الروحية بصفة عامة، والزاوية المعينية كزاوية من تلك “الزاويا”، كانت منغمسة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية لمحيطها وبيئتها، غير مكتفية بالانعزال عنه. وما قام به الشيخ ماء العينين في سبيل ذلك يبين أن التصوف في الصحراء تصوف اجتماعي لا روحاني فحسب.
الزْوَايا و التنمية في مجتمع البيضان
إن لمفهوم “الزاوية” في الثقافة البيضان دلالة خاصة، لها دعامات و أركان. و قد ارتبطت في المجتمع الصحراوي بقبائل محدودة، عنيت بالشؤون الدينية و تربية المجتمع على القيم الإسلامية.
الحكاية الشعبية الصحراوية، خزّان لغوي و ثقافي
اشترك الحكايات الشعبية في الصحراء بصفة عامة مع الأمثال والألغاز وغير ذلك في كونها ذلك المنقول الشفاهي بالتوارث عبر الأجيال، والذي لا يُعرف مؤلّفُه على وجه التحديد،
عناية علماء الصحراء و شنقيط بالحديث النبوي الشريف
لقد نال علم الحديث وفقهه شرف العناية والاهتمام من لدن علماء الإسلام على مر العصور وتعاقب الدهور، فوضع علماء الجرح والتعديل أصولا علمية و قواعد و مناهج كلية لتلقي